الفَصل الثّاني
طرق إثبات النسب أو الأمور التي يثبت بها:
يثبت النسب بأحد أمور ثلاثة: الفراش، والإقرار، والبينة.
المبحث الأول
- الفراش:
- تعريف الفراش: الفراش في الأصل ما يبسط للجلوس أو النوم عليه، ويكنى به عن المرأة التي يستمتع بها الرجل يقول جل شأنه: {وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ * إِنَّا أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَاءً * فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا * عُرُبًا أَتْرَابًا * لأَصْحَابِ الْيَمِينِ} [الواقعة: 34 - 38].
فكنى بالفراش عن النساء وهن الحور العين.
والمراد بالفراش هنا: الزوجية القائمة بين الرجل والمرأة عند ابتداء حملها بالولد، أو كون المرأة معدة للولادة من شخص معين، وهو لا يكون إلا بالزواج الصحيح وما ألحق به، فإذا ولدت الزوجة بعد زواجها، ثبت نسبة من ذلك الزوج دون حاجة إلى إقرار منه بذلك أو بينة تقيمها الزوجة على ذلك لما رواه الجماعة إلا أبا داود عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "الولد للفراش وللعاهر الحجر" يريد أن الولد لصاحب الفراش كما جاء في لفظ البخاري وهو الزوج، وللعاهر وهو الزاني الرجم عقوبة على جريمته إن كانت تستوجب الرجم، أو الخيبة والخسران ولا نسب له لو نازع فيه.
والسبب في ثبوت النسب بالفراش دون توقف على إقرار أو بينة هو أن عقد الزواج الصحيح يبيح الاتصال الجنسي بين الزوجين، ويجعل الزوجة مختصة بزوجها يستمتع بها وحده وليس لغيره أن يشاركه ذلك الاستمتاع، بل ولا الاختلاء بها خلوة محرمة، فإذا جاءت بولد فهو من زوجها، واحتمال أنه من غيره احتمال مرفوض، لأن الأصل حمل أحوال الناس على الصلاح حتى يثبت العكس.
- شروط ثبوت النسب بالفراش:
وإذا كانت الشريعة جعلت الفراش طريقاً لإثبات النسب بمفرده، لكن ذلك يتوقف على توفر شروط بعضها متفق عليه بين الفقهاء، وبعضها مختلف فيه، وهذه الشروط:
1- إمكان حمل الزوجة من زوجها بأن يكون الزوج ممن يتأتى منه الحمل، بأن يكون بالغاً أو مراهقاً على الأقل، فلو كان صغيراً دون ذلك لا تعتبر الزوجة فراشاً، لأنه لا يتصور أن تحمل منه زوجته، ومن ثم لا يثبت نسب ولد وضعته زوجته مهما كانت المدة بين العقد والوضع، وهذا متفق عليه بين الفقهاء.
2- إمكان التلاقي بين الزوجين عادة بعد العقد، وهو شرط عند الأئمة الثلاثة (مالك والشافعي وأحمد) لأن العقد جعل المرأة فراشاً باعتبار أنه يبيح هذا الاتصال الذي هو سبب حقيقي للحمل، فلو انتفى إمكان التلاقي عادة وجاءت بولد بعد مضي ستة أشهر من حين العقد عليها لا يثبت نسبه منه.
وذهب الحنفية إلى عدم اشتراط ذلك فقالوا: إن مجرد العقد يجعل المرأة فراشاً لأنه مظنة الاتصال، فإذا وجد كفى، لأن الاتصال لا يطلع عليه بخلاف العقد.
3- أن تلد الزوجة لستة أشهر على الأقل من تاريخ العقد عليها عند المذاهب الأربعة ولكن مع إمكان التلاقي، لأن أقل مدة الحمل ستة أشهر كما قدمنا، ومن وقت المخالطة في الزواج الفاسد لأن المرأة لا تصير فراشاً إلا بها فلو أتت به لأقل من ذلك لا يثبت نسبه إلا إذا ادعاه ولم يصرح بأنه من الزنا، فيثبت نسبه ويحمل ذلك على أن المرأة حملت به منه قبل العقد الصحيح عليها بناء على عقد آخر صحيح أو فاسد أو مخالطة لها بشبهة حفاظاً على الولد من الضياع وستراً على الأعراض، ويكون ثبوت النسب هنا بالإقرار لا بالفراش.
4- أن تلده لأقل من أقصى مدة الحمل - على الاختلاف السابق فيها - من وقت الفرقة بالطلاق البائن أو الموت، فإذا جاءت به لسنتين فأكثر من حين الفرقة لا يثبت نسبه بالفراش السابق عند الحنفية، لأنه تبين أنها حملت به بعد انتهاء الفراش يقيناً.
وإذا كان الطلاق رجعياً ثبت نسبه منه في أي وقت تجئ به ولو مضى سنتان فأكثر من وقت الطلاق ما لم تقر بانقضاء عدتها بعد طلاقها منه، ويجعل ذلك على أنه راجعها بعد الطلاق في عدتها التي قد يطول وقتها إذا امتد طهرها ويكون ثبوته بالفراش الذي استدامته الرجعة.
تلك هي شروط ثبوت النسب بالفراش، فإذا تخلف منها شرط لا يثبت النسب منه إلا إذا ادعاه عند الحنفية، ويكون ثبوته في هذه الحالة بالدِّعوة لا بالفراش، ولا يملك نفيه إلا بعد إجراء اللعان الشرعي إذا توفرت شروطه، وهي تتلخص فيما يلي:
1- أن ينفي الولد عند الولادة أو في مدة التهنئة بالمولود عند أبي حنيفة، أو في مدة النفاس في رأي آخر في المذهب الحنفي إذا كان حاضراً وقت الولادة، أو وقت حضوره أو وقت التهنئة إن كان غائباً عند أبي حنيفة، ومن مقدار مدة النفاس في رأي آخر في المذهب الحنفي.
2- ألا يكون الزوج أقر بالولد صراحة أو دلالة كقبوله التهنئة أو سكوته عندها ولم يرد.
3- أن يكون كل من الزوجين أهلاً للعان عند ابتداء الحمل بالولد.
4- أن يكون الولد حياً عند الحكم بقطع النسب بعد إجراء اللعان والقضاء بنفيه عنه، فلو مات قبل القضاء بنفي نسبه لا ينتفى نسبه، لأن النسب يتقرر بالموت.
وإذا انتفى نسبه باللعان لا يجوز عند الحنفية أن يلحق بغيره لو ادعاه لاحتمال أن يكذب الزوج نفسه ويعترف بنسبه على ما بيناه من قبل.
- ثبوت النسب في الزواج الفاسد:
الزواج الفاسد لا تصير به المرأة فراشاً بالعقد بل بالدخول الحقيقي على المفتى به في المذهب الحنفي، فإذا ولدت المتزوجة زواجاً فاسداً لأقل من ستة أشهر من حين الدخول الحقيقي لا يثبت نسبه من الزوج إلا إذا ادعاه ولم يصرح إنه من الزنا، وإن جاءت به لستة أشهر فأكثر ثبت نسبه بدون دعوة منه.
وإذا أتت به بعد المتاركة لأقل من سنتين من تاريخ الفرقة عند الحنفية، وإذا ولدته لأكثر من ذلك لا يثبت نسبه.
ويلاحظ هنا: أن الولد إذا ثبت نسبه بالزواج الفاسد لا ينتفى بنفيه، لأن النسب الثابت بالفراش لا ينتفي إلا باللعان، ولا لعان إلا في الزواج الصحيح، وبناء عليه يكون الفراش الثابت بالزواج الفاسد أقوى من الفراش الثابت بالزواج الصحيح. هكذا يقولون:
ثبوت النسب بالمخالطة بشبهه: هذه المخالطة لا تصير بها المرأة فراشاً، بل يثبت بها شبهة الفراش فإذا ولدت بعد أن خالطها بشبهة لا يثبت نسبه بتلك الشبهة إلا إذا انضم إليها الدِّعوة، وحينئذ يكون ثبوت النسب بالإقرار لا بالفراش.
- أما ثبوت النسب بعد الفرقة بين الزوجين فهو على التفصيل الآتي:
1- المطلقة قبل الدخول: إذا ولدت ولداً لستة أشهر من وقت العقد ولأقل من ستة أشهر من وقت الطلاق ثبت نسبه من زوجها لإمكان الحمل منه وقت الفراش عند الحنفية الذي يثبت عندهم بمجرد العقد كما قدمنا، وإن جاءت به لأقل من ستة أشهر من وقت العقد لا يثبت نسبه، لأنه يدل على أنها حملت قبل أن تكون فراشاً لهذا الزواج، وإن جاءت به لستة أشهر من وقت الطلاق لا يثبت نسبه منه، لاحتمال أنها حملت بعد الطلاق من غيره، واحتمال أنها حملت قبل الطلاق لا يكفي لإثبات النسب هنا، لأن زوجيتها انقطعت بهذا الطلاق البائن حيث لا عدة عليها.
وقد عللوا ذلك: بأن القاعدة عندهم. أن كل امرأة لا تجب عليها العدة لا يثبت نسب ولدها من زوجها إلا إذا علم يقيناً أنه منه بأن تأتي به لأقل من ستة أشهر من حين الطلاق، وكل امرأة تجب عليها العدة يثبت نسب ولدها من زوجها إلا إذا علم يقيناً أنه ليس منه بأن تجيء به لأكثر مدة الحمل.
2- المطلقة بعد الدخول: ولها حالتان. إما أن تقر بانقضاء عدتها قبل الولادة أولاً. فإذا أقرت بانقضاء عدتها في مدة يحتمل انقضاء العدة فيها، ثم جاءت بولد لستة أشهر فأكثر من وقت الإقرار فلا يثبت نسبه من مطلقها سواء كان الطلاق رجعياً أم بائناً، لاحتمال أن يكون الحمل من غيره بعد العدة، وإن ولدته لأقل من ستة أشهر من وقت الإقرار بانقضاء عدتها ثبت نسبه وتكون كاذبة في إقرارها لأنها وقت الإقرار كانت حاملاً بيقين.
وإذا لم تقر بانقضاء عدتها وجاءت بولد لأقل من سنتين من وقت الطلاق ثبت نسبه من مطلقها سواء كان الطلاق رجعياً أم بائناً.
وإن جاءت به لسنتين فأكثر من وقت الطلاق ثبت نسبه إذا كان الطلاق رجعياً، ويحمل على أن زوجها خالطها أثناء العدة وتكون رجعة.
وإن كان الطلاق بائناً لا يثبت نسبه، لأن الحمل كان بعد زوال الفراش إلا إذا ادعاه، فإنه يثبت نسبه بالدَّعوة لا بالفراش، ويحمل هذا الادعاء على أنه خالطها بشبهة أثناء العدة.
3- المتوفى عنها زوجها: إما أن تدعي الحمل أولاً.
فإن ادعت الحمل وجاءت بولد لأقل من سنتين من تاريخ الوفاة ثبت نسبه من زوجها لقيام الفراش حتى حملها، وإن جاءت به لسنتين فأكثر لا يثبت نسبه للتيقن بأن علوقها به كان بعد الموت.
وإن لم تدع الحمل وأقرت بانقضاء عدتها بمضي أربعة أشهر وعشرة أيام ثم جاءت بولد لأقل من ستة أشهر من وقت انقضاء عدتها الذي زعمته ثبت نسبه لإمكان علوقها به قبل وفاته وظهور كذبها في دعوى انقضاء عدتها.
وإن جاء به لستة أشهر فأكثر من وقت انقضاء عدتها لا يثبت نسبه لاحتمال أن يكون حملها من غير زوجها بعد انقضاء عدتها.